فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال؛ لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: جاء بلال بتمر بَرْنِيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا»؟ فقال بلال: من تمرٍ كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمَطْعَم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «أَوْهِ عَيْنُ الرِّبَا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتريَ التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به» وفي رواية «هذا الرِّبا فردّوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» قال علماؤنا: فقوله؛ «أوهِ عين الربا» أي هو الربا المحرّم نفسه لا ما يشبهه.
وقوله: «فردّوه» يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه؛ وهو قول الجمهور؛ خلافًا لأبي حنيفة حيث يقول: إنّ بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو رِبًا، فيسقط الربا ويصح البيع.
ولو كان على ما ذُكر لما فسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره بردّ الزيادة على الصاع ولصحّح الصفقة في مقابلة الصاع. اهـ.
وقال القرطبي:
كل ما كان من حرام بيّن ففُسخ فعلى المبتاع ردّ السلعة بعينها.
فإن تلفت بيده ردّ القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعُروض والحيوان، والمِثْل فيما له مِثل من موزون أو مكيل من طعام أو عَرَض.
قال مالك: يُردّ الحرام البيّن فات أو لم يفت، وما كان مما كره الناس رُدّ إلاّ أن يفوت فيترك. اهـ.

.قال القاسمي:

قال القاشانى عليه الرحمة:
آكل الربا أسوأ حالًا من جميع مرتكبي الكبائر، فإنّ كل مكتسب له توكل ما في كسبه قليلًا كان أو كثيرًا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم».
وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه، لا توكل له أصلًا، فوكلّه الله تعالى إلى نفسه وعقله، وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه الجنّ وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد {ذلك بأنَهُم قالوا} أي: ذلك بسبب احتجابهم بقياسهم وأول من قاس إبليس فيكونون من أصحابه مطرودين مثله. اهـ.

.قال أبو حيان:

وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة.
إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده، فانتهى تبع النهي، ورجع عن المعاملة بالربا، أو عن كل محرم من الاكتساب. اهـ.

.قال السعدي:

اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره. اهـ.

.قال ابن كثير:

وإنما حرمت المخابرة وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي: اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض- إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها، حسمًا لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف. ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا.
يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه».
وفي السنن عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
وفي الحديث الآخر: «الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس». وفي رواية: «استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك».
وقال الثوري: عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. رواه البخاري عن قبيصة عنه.
وقال أحمد، عن يحيى، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.
رواه ابن ماجه وابن مردويه.
وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
وقد قال ابن ماجة: حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن زبيد، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبد الله- هو ابن مسعود- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا».
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عمرو بن علي الفلاس، بإسناد مثله، وزاد: «أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال ابن ماجة: حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه».
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، عن عباد بن راشد، عن سعيد بن أبي خَيرة حدثنا الحسن- منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة- عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا» قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: «من لم يأكله منهم ناله من غباره» وكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من غير وجه، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن، به.
ومن هذا القبيل، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقرأهُن، فحرم التجارة في الخمر.
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي، من طرق، عن الأعمش به.
وهكذا لفظ رواية البخاري، عند تفسير الآية: فحرم التجارة، وفي لفظ له، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال، عليه السلام في الحديث المتفق عليه: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها». اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس}.
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون التشبيه بمن يتخبطه الشيطان من المس حال تخبطه.
ويحتمل أن يكون التّشبيه بالمتخبط إثر تخبطه والظاهر العموم، لأن الآكلين من الربا متفاوتون في الأكل، فالمكثر منهم شبيه به حال التخبط والمقلل شبيه به أثر التخبط.
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنها تقدمها إنفاق الصدقة، والصدقة من غير عوض والرّبا في ظاهر الأمر زيادة من غير عوض لأنه يدفع قليلا في كثير.
وقدّر الفخر المناسبة بأن الصدقة نقص من المال والرّبا زيادة فيه، فالنفوس تحبه وتكره الصدقة فجاءت الآية ردّا عليهم وإشعارا بأن ذلك النقص زيادة وتلك الزيادة نقص.
قال الزمخشري: {مِنَ المَسّ} متعلّق ب {يقومون} أو يقوم، فرد عليه أبو حيان تعلقه ب {يقومون} لأن قيامهم في الآخرة وليس فيه جنون ولا مس.
قال ابن عرفة: وفيه عندي نظر من وجه آخر وهو أنّك تقول:
ما أكل زيد إلا كالشيطان يأكل بشماله.
أو تقول: ما أكل زيد بشماله إلاّ كالشيطان يأكل بشماله.
فهذه الحالة أخف لأنه في الأولى ذمّ لآكله مطلقا، وفي الثانية ذم له إذا اتّصف بالأكل بالشّمال وقد لا يتصف به، وكذلك هذا يلزم أن يكون التشبيه خاصا بقيامهم من المس فيقال: لعل لهم حالة أخرى يقومون بها من المس.
قال ابن عرفة: اعلم أن القدماء من المعتزلة ينكرون الجنّ بالأصالة، وهو كفر لا شك فيه فإنه تكذيب للقرآن والحديث، والمتأخرون منهم يثبتونهم وينكرون الصرع.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا}.
قال الزمخشري: الإشارة للعقاب.
قال ابن عرفة: أو لأكلهم الربا لأنه سبب في عقوبتهم وسبب السبب مسبب، وهذا قياس تمثيلي ذكروا منه قياس الشبه والتسوية وهو قياس أخروي بمعنى أن الحكم في المقيس عليه ثابت في الفرع المقيس من باب أحرى فينعكس فيه التشبيه.
ومثله ابن مالك في المصباح بهذه الآية وبقول الشاعر:
كأن انتظار البدر من تحت غيمه ** نجاة من البأساء بعد الوقوع

وبقول الآخر:
وكأن النجوم بين الدّجى ** سنن لاح بينهن ابتداع

فجعل أهل السنة بين المبتدعة بمنزلة النجوم في الظلام.
وقال غيره: الاهتداء بالنجوم يحتاج فيه إلى معرفة استدلال واتباع أهل السنة لا يحتاج فيه إلى تكليف دليل فكان أحرى.
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا}.
قال الزمخشري: هذا رد على قياسهم.
قال ابن عرفة: بل هو عندي تجهيل لهم، ويكون النّص متقدما فهو قياس في معرض النّص فهو فاسد الوضع وعلى ما قال الزمخشري يكون النص غير متقدم. اهـ.